الاشتغال بالتوافه
عبدالمجيد بن عبدالرحمن باحص
تمرُّ بنا في حياتِنا اليوميَّة والعامَّة أمورٌ عدَّة، منها ما نصرِفُ النَّظر عنْها؛ لأنَّها لا تستحقُّ، وأخرى نلتفِتُ لَها؛ لِما تَحمِل من مهمَّات قد حوتْها.
وهذه حالة عاديَّةٌ وطبعية، يَمرُّ بِها أيٌّ منَّا ولا يكاد يخلو، بيْدَ أنَّ الذي لا يُسْكَت عنْه، ويُسْتَقبح مَرْآه: أن تَجد أناسًا مِمَّن يعوَّل عليْهِم وتترقَّبهم الآمالُ مشتغلين بالتَّوافِه، مُستأْنِسينَ لها وبها، مهتمِّين لتواجُدِها، داعين لفَرْضِها وعرْضِها.
وكلُّ ما أبعد عن همٍّ، أو أَلْهى عن جِدٍّ، أو اقترن بإثم، أو جاوزَ سدادًا، ولازم إسفافًا، أو التصق بذُلٍّ، فهو جدير أن لا يُوضَع عنده رحلٌ، أو يُبتاع منه متاع، فليس لظامئٍ من سرابٍ إلاَّ التَّزويق والخداع.
إنَّها الرزية أن يُبتلى أحدُنا بالتَّوافه، فينشغل بها لتُلْهِيه عن عمله الأعظم، أو فكره الأفضل أو إصلاحه الأكْبر، فلا يكاد يُقَدِّر للأمور قدْرَها، أو يعرف للمصائب خطَرَها، فليس له ثَمَّة اهتمام، وقد يُشغل أحدُنا بالتَّوافه بِحُجَّة أنَّها من الضروريات أو من الأمور الواجبِ تدارُكها وتعلُّمها، ولو أنَّنا وضعناها في المقياس السَّليم لاتَّضحت التَّوافه من غيْرِها، ولعَلِمْنا ما الجِدّ من الهزْل، وما الصَّحيح من السقيم؟
ولو نظرتَ إلى حال ذلك المستغرق بالتَّوافه، لوجدتَه مُعْرِضًا عن الأمور العظيمة والقضايا الهامَّة؛ بِحُجَّة أنَّ تلك من المستحيلات، أو من الأمور الَّتي لا يُسْتطاع نوالُها، أو من الكماليَّات التي لا حاجةَ لها، أو من ضُروب الخيال التي لا تَكادُ تُوجد إلا في عصورٍ مَضَتْ، وتلك صورةٌ زيَّنها له شيطانُه وأمْلَتْ عليْهِ بِها همَّتُه القاصرة، فأضحى ذليلاً للتَّوافه.
وإنَّك لتعجب، بل تحزن وتُساء، حين ترى جمعًا من النَّاس مِمَّن هم حولَك أو تسمع بهم أو ربَّما تُشاهدهم ـ مِمَّن يُرجى نوالُ عقْلِه أو استِدْرار فِكْره ـ قد غلبتْ عليْهِم تلك البليَّة، فتجِدُهم لاهثين خَلْفَ سخافاتٍ كانت الدُّنيا خيْرَ عارضٍ لها، وكانت فضائيَّات الفساد خيرَ مُلقية لهم، فاستبلدوا واستبلدوا وكان همّ أحدِهم لا يكاد يتجاوزُ شركَ نعلَيْه، من قِصَرِه وضعْفِه وهوانه، فيسرع ليلتقطَ فُتاتَ ما يَجده من توافِهَ؛ ليلقِيَ به على مَن حوله ليحدِّثَهم به، وكأنَّه شأنٌ عظيم قد عَرَض له، وأراد للنَّاس أن يُدْرِكوا حجْمَ ذلك وأن يُشاركوه.
إنَّ الاشتِغال بالتَّوافه يُورثُ صَغار العقْل، وبلادةَ الفهْم، وسطحيَّة التَّفكير، وسذاجة الطَّرح؛ فلا مقياس لديْه كبير، ولا شأن لديْه عظيم، ولا همَّ وهمَّة تدفع طُموحًا، فيصغُر بصِغَر همِّه وعقله، وإقبالِه وشراهتِه على توافهه، فانعدم تَمييزُه، وانعدمت رؤيتُه، وقلَّت بركتُه.
ولعلَّ ظاهرةَ الاشتِغال بالتَّوافه هي أبرزُ سِمةٍ غلبتْ على المجتمع، فأضعفت أصالتَه وأبردَتْ حميَّته، فكان كحملٍ وديعٍ لا يقوى من أَمْره على شيء، أمَّة تأنس ذِئْبَها وتأْمن عدوَّها؛ لتُصْبِح خاويةً خاملةً مخدَّرةً، لا تقدر على أن تَرُدَّ شرًّا أو تَجلب خيرًا، إلا ما شاء الله.
إنَّ التَّاريخ يخبرنا عن رجالٍ مضَوْا، وأناسٍ رحلوا، كيف أنَّ أفعالهم كانت بعيدةً عن التَّوافه، فضلاً عن الاشتغال بها، فكانتْ حياتُهم جدًّا في جِدٍّ، وهمُّهم علوًّا في علو، فكانوا بحق من العُظماء ومن الذين يخلِّد التَّاريخ ذِكْرَهم، وتُمَجِّدُ الأُمَّة أفعالَهم، وشتَّان بينهم وبين مَنْ هُم في ضِدِّهم، وعلى قدْر أهل العزم تأتي العزائمُ.
كم من مفرِّطٍ في أمر، ومتساهلٍ في قضيَّة، ومشتغلٍ بسخافةٍ، لم يشعر بمغبَّة عمله ذلك إلا حينما سبقه الجادُّون في جِدِّهم، وابتعد عنه الناجحون برُقِيِّهم، وارتفع الظَّاهرون بعِلْمهم وعقْلِهم، فكان ضحيَّة فِعْله، نزيلَ جهله، سقيطَ أمره.
وما أصدقَ ما قاله الشَّاعر، حين نبَّه إلى وجوب التنبُّه إلى الأمور العظام، وترك ما دونَها؛ حيث يقول:
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومِ فَلا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
وآخر على طريقِه يسلُك طريقَ التَّنبيه، فيقول:
قَدْ رَشَّحُوكَ لأَمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أَنْ تَرْعَى مَعَ الهَمَلِ
فهل وعَى مَن وعى: أنَّ الاشتغال بالتَّوافه موتٌ للقلب، موتٌ للضَّمير، موت للأمَّة؟
وإنَّنا في زمن لا يسمح أن نشتغِل فيه بغير ما يَزيدنا قوَّة ورِفْعة ومنعةً وتقدُّمًا، ولو حاول الأعداءُ استِخْدام وسائِلهم في إيقاف ذلك المدِّ، ولو على حساب راحتِنا؛ لأجل أن نبلغ غايتَنا وما نصبو إليه، مطمئنِّين واثقين، ولن نبلُغَه إلا بالعمل الجادِّ، والتفكير السليم، والإيمان القوي.