الفهوه العربيه حاضرة للافراح والاتراح

فنجان القهوة .. رمز الإلفة والسلام.. ونذير الحرب والدمار

جدة: دانيا الصبان
تظل القهوة العربية «المرة» الغنية برائحة الهيل والمستخرجة من أعماق «المهباج» عاملا مشتركا في أغلب البيوت العربية، فهي سيدة الضيافة في كل المناسبات والأعياد والأحزان، تعد دليلا ومؤشرا على شخصية الناس، فطريقة شرب القهوة تعكس خلفيات الضيوف وعاداتهم الاجتماعية، فهي من العادات التي يتمسك بها العربي ويعتز بها كثيرا، بل يصل الأمر إلى أنهم في بعض البلدان العربية ينظرون إلى من لا يجيد إعداد القهوة العربية على أنه «ترعرع في بيت غير ذي كرم».
حظي فنجان القهوة بالاحترام عند معديه وشاربيه على حد سواء، ونتج عنها منظومة سلوكيات لغوية واعتقادات سائدة، فمنها أن صاحب البيت هو أول من يشربها للتأكد من أنها جيدة الصنع قبل تقديمها للضيوف، وهذا هو الإيثار والجود بالنفس.
كما لها معنى هاما في المناسبات الخاصة، كأن يأتي أحدهم بطلب معين معاتبا أو ليخطب عروسا فيضع فنجان القهوة أمامه ولا يشربه حتى يسأله المضيف عن حاجته ويلبيها، أو يقول له اشرب قهوتك طلبك مستجاب، كما أنها تقدم في مناسبات العزاء، وينبغي عند الانتهاء من ارتشافها الترحم على المتوفي ويتحاشون كلمة «دايم» تطيرا من استمرار الموت فيهم.
وليست القهوة للسلم فقط، فقد ذكر في احد المراجع أنها كانت تستخدم للحروب فكانت القبائل في السابق إذا حدث بينها شجار أو معارك طاحنة أعجز إحدى القبائل بطل معين، كان شيخ العشيرة يجتمع بأفرادها ويتساءل «من يشرب فنجان فلان!» ويشير بذلك للبطل، أي من يتكفل به أثناء المعركة ويقتله، فيقول أشجع أفراد القبيلة «أنا أشرب فنجانه» وبذلك يقطع على نفسه عهدا أمام الجميع بأن يقتل ذلك البطل أو يقتل هو في المعركة وأي عار يجلبه هذا الرجل على قبيلته إذا لم ينفذ وعده، وهكذا تحولت القهوة من رمز للإلفة والسلام إلى نذير حرب ودمار.
وللقهوة محظورات في مخزوننا الثقافي تصل عقوبتها للقطيعة لعدة شهور، يقول عبد الباسط الشهري، في عقده الخامس، «يعتبر الاعتذار عن شربها في بيت المضيف من قلة الواجب، وعدم الاحترام لصاحب البيت، وجرت العادة أن يقدم الماء قبل القهوة لأنه لا يجوز طلب الماء بعد شربها مباشرة، وأن طلب الضيف الماء فيدل ذلك على أن القهوة غير جيدة، كما تقتضي العادات أنه كلما دخل ضيف جديد على المجلس تدور فناجين القهوة من جديد على جميع الجالسين ولا يجوز أن يغادر أحدهم المجلس والفناجين تدور وإنما عليه الانتظار حتى تستقر الفناجين مكانها».
والقهوة المطعمة برائحة الهيل مخزون لغوي تداولته ألسنت العرب، وصدحت به الحناجر، فعلى سبيل المثال هذا أحد الأمثال الشعبية المتوارثة «فوت رحلة مصر ولا تفوت قهوة العصر»، كما تغنت بها حناجر مطربين سواء من جيل العمالقة أو الشباب فهذا صوت سميرة توفيق يصدح حينما غنت «صبوا القهوة وزيدوها هيل وسقوها للنشامى على ظهور الخيل»، كما برزت في أبيات الشعر العربي الأصيل، فهذا بيت من أبيات الأمير الشاعر خالد الفيصل» أعن له عنة أهل الكيف للهيل... ما ذاق راعي الكيف ذقته هنيا».
وهناك مفارقة واضحة في العلاقة بين الدخان والقهوة ففي حين يكثر تعاطي التبغ وملازمته لشرب القهوة في بلاد الشام والمغرب والنيل، نجده ينحسر إلى أدنى مستوياته في دول الخليج العربي، بينما يحل محله التمر بأنواعه الذي يؤكل بعد القهوة لتخفيف مرارتها.
وعن أصل القهوة، فالمثبت تاريخيا أن اليمن هي أول الأراضي التي عرفت القهوة وزرعت حبوب شجرة البن على سطوح منحدرة لجبالها وأصبحت عادة شعبية امتدت خلال القرن الخامس عشر إلى الدول العربية المجاورة ومن ثم شحنت إلى أوروبا بكميات كبيرة منذ أواسط القرن السابع عشر الميلادي، وفتح أول محل لشرب القهوة في اسطنبول ثم فينيسيا ثم إنجلترا عام 1652م، كما عرفت بمسميات عديدة فمنها بنت اليمن ـ نسبة إلى موطنها الأصلي ـ ومنها خمر الصالحين وذلك لأنهم كانوا يستعينون بها على التهجد وقيام الليل، حيث تعمل على تقويتهم وتنشيطهم لأداء العبادة كما يطلق عليها اسم البن وهو مشتق من البنة أي الرائحة الطيبة، كما ذكرت القهوة في كتاب «القانون في الطب» لابن سيناء وسميت قهوة لأنها تقهي شاربها عن الطعام أي تقل شهوته له أو تذهب به من غير مرض مثل أقهم يقال للرجل القليل الطعام.
ولا تقف القهوة كعادة اجتماعي ثقافية منشرة في الوطن العربي، بل كما أن لتناول فنجان قهوة صغير مع حبة الهيل فوائد صحية، فهي أفضل طريقة للتخلص من العطش عوضا عن شرب كميات كبيرة من السوائل والقهوة إضافة إلى أنها نوع من المنشطات، فهي معروفة بفوائدها للمعدة بعد تناول وجبة ثقيلة ومليئة بالدهون.
تقول فائزة إسماعيل مؤلفة كتاب مائدة العروسين من المطبخ المكي «هناك عادات تعارف عليها الناس، فيجب أن تقدم القهوة للضيوف وأنت واقف، أما جالس أمام الضيف ومناولته الفنجان فمن أكبر درجات الإكرام والتبجيل، واعتاد القهوجي القائم على خدمة القهوة الجلوس أمام الضيف المهم وتكسير الفناجين أمامه للدلالة على أن لا أحد يستحق الشرب فيها بعده، وهذه أعلى درجات التبجيل والكرم، ولابد من امساك الدلة باليد اليسرى وتقديم الفنجان باليمنى، ولا يجلس القهوجي ـ من يقوم بتقديم القهوة ـ أبدا حتى ينتهي جميع الحاضرين من شرب القهوة، بل وأحيانا يستحسن إضافة فنجان آخر للضيف في حال انتهائه من الشرب خوفا من أن يكون قد خجل من طلب المزيد، وعند سكب القهوة وتقديمها للضيوف يجب أن تبدأ من اليمين، أو تبدأ بالضيف مباشرة، والمتعارف عليه أنك تصب القهوة حتى يقول الضيف «كفى» ويعبر ذلك بقوله «بس» أو «كافي» أو إكرام «أو دايم أو بهز فنجان القهوة».
وتابعت إسماعيل «ومن مهارة صب القهوة أن تحدث صوتا خفيفا نتيجة ملامسة الفنجان للدلة وكان يقصد بهذه الحركة تنبيه الضيف إذا كان سارحا أو متكئا لأنه لا يجوز تناول القهوة أثناء الاضطجاع ويمكن تجاوز من لا يعتدل في جلوسه عند قدوم القهوة ومن لا يجلس باعتدال لتناول القهوة فإنه لا يرغب بالشرب إلا أن يكون شيخا مسنا أو مريضا ولا يلحون على غير الراغب بالشرب المعتذر عن الشرب بإيماءة بسيطة برأسه أو يده».
وعن تسميات تلك الادوات، تقول إسماعيل «للقهوة أدوات مختلفة لها أهميها الكبيرة وكل أداة منها لها دور ومفعول، إذ بدونها لا يمكن صناعة القهوة وإعدادها بالشكل المناسب والمطلوب. ومن هذه الأدوات المحماسة، وهي أداة معدنية ثقيلة تشبه المقلى تحمس بها القهوة وهناك نوع منها له منصب صغير ترتكز عليه وتقلب بداخلها حبات القهوة بواسطة قضيب طويل له رأس يشبه الملعقة وله جرير يربط في آخر المحماسة وتعذر رفع المحماسة وتقليبها باليد بسب طولها وثقلها وقد جاء اسم المحماسة من الحمس وهو اشتداد الحر وتقليب الشيء على النار، كما يوجد المهباش وهو جرن تتم فيه عملية سحن القهوة وطحنها وله عصا غليظة تدق بها القهوة تسمى المسحانة. ويصنع المهباش من خشب صلب ومتين كخشب البلوط مثلا ويعيش لسنوات طويلة وهو تحفة خشبية جميلة وجذابة تزين بنقوش وزخارف جميلة وعليه بعض الأزرار النحاسية التي رتبت بأشكال هندسية مختلفة تجذب الأنظار، وعندما تدق القهوة في جوفه يصدر صوتا رتيبا متناسقا وهناك العديد ممن يتقنون الدق عليه بعدة دقات مختلفة لكل دقة منها صوت ولحن يختلف عن الأصوات الأخرى وكان صوت الجرن يجلب الناس لشرب القهوة عند صاحب البيت ويتجاذبون الأحاديث المختلفة».
وأضافت إسماعيل «كما توجد أنواع مستخدمة من الدلال، فهناك ما يطلق عليه دلة الغلاية ودلة الماشة فيجلبها بعض المضيفين من بلدان بعيدة وبأسعار باهظة طمعا في السمعة الحسنة وقد اشتهر بصناعتها أهل الشام والعراق وكثيرا ما يزينون الدلة المصب بنقوش تعبر عن بيئتهم فهذه الدلال الشامية تتزين بصور الطيور على جانبيها تعبيرا عن بيئة البادية وتحمل الدلة في رأسها صورة الطائر يتجه نحو مصب القهوة بينما في الخليج فتحمل صورة جوهرة تعبرا عن صيدهم البحري».

خالد الرواضيه